فصل: المملكة الأولى: مملكة تونس وما أضيف إليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة الثانية في الممالك والبلدان الغربية عن مملكة الديار المصرية وما سامت ذلك ووالاه من الجهة الشمالية:

وفيه ست ممالك:

.المملكة الأولى: مملكة تونس وما أضيف إليه:

وفيه اثنتان وعشرون جملة:
الجملة الأولى في بيان موقعها من الأقاليم السبعة وحدودها:
أما موقعها من الأقاليم السبعة فإن أكثرها واقع في الإقليم الثالث، وبعضها واقعٌ في أواخر الثاني.
وأما حدودها فعلى ما أشار إليه في التعريف: حدها من الشرق العقبة الفاصلة بينها وبين الديار المصرية، ومن الشمال البحر الرومي، ومن الغرب جزائر بني مزغنان الأتي ذكرها، ومن الجنوب آخر بلاد الجريد والأرض السواخة إلى ما يقال إن فيه المدينة المسماة بمدينة النحاس.
قال في مسالك الأبصار: وحدها من الجنوب الصحراء الفاصلة بينها وبين بلاد جباوة المسكونة بأممٍ من السودان. وحدها من الشرق آخر حدود أطرابلس، وهي داخلة في التحديد. وحدها من الشمال البحر الشامي: وهو الرومي. وحدها من الغرب آخر حدود بدليس المجاورة لجزائر بني مزغنان، آخر عمالة صاحب بر العدوة.
وقد نقل في تقويم البلدان في الكلام على بونة عن ابن سعيد أن آخر سلطنة بجاية من الشرق مدينة بونة الأتي ذكرها، وأنها أول سلطنة أفريقية من الغرب. قال في مسالك الأبصار: وطولها خمس وثلاثون يوماً، وعرضها عشرون يوماً.
الجملة الثانية في بيان ما اشتملت عليه هذه المملكة من الأعمال وما انطوى عليه كل عمل:
وهذه المملكة تشتمل على عملين:
العمل الأول: أفريقية:
قال في تقويم البلدان: بفتح الهمزة وسكون الفاء وكسر الراء المهملة وسكون الياء المثناة تحت وكسر القاف ومثناة تحت بعدها هاء في الآخر. وقد اختلف في سبب تسميتها أفريقية. فقيل إن أفريقس أحد تبابعة اليمن افتتحها واستولى عليها فسميت بذلك. وقيل إنما سميت بفارق بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.
وكانت قاعدتها القديمة سبيطلة بضم السين المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة من تحتها وفتح الطاء المهملة واللام وفي آخرها هاء. وهي مدينةٌ أزلية في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة، حيث الطول ثلاثون درجة، والعرض ثلاثون درجة وثلاثون دقيقة. وبها آثار عظيمة تدل على عظم أمرها.
قال الأدريسي: وكانت قبل الإسلام مدينة أفريسيس ملك الروم الأفارقة، فتحها المسلمون في صدر الإسلام وقتلوا ملكها المذكور.
ثم صارت قاعدتها في أول الإسلام القيروان. بفتح القاف وسكون المثناة تحت وفتح الراء المهملة وواو وألفٍ وفي آخرها نون. وهي مدينةٌ في الإقليم الثالث أيضاً حيث الطول ثمانٌ وعشرون درجة وإحدى وثلاثون دقيقة، بنيت في صدر الإسلام بعد فتح أفريقية في جنوبي جبل شماليها؛ وهي في صحراء، وشرب أهلها من ماء الأبار وقال في العزيزي: من ماء المطر، وليس لها ماءٌ جارٍ، ولها وادٍ في قبلة المدينة به ماءٌ مالحٌ يستعمله الناس فيما يحتاجونه. قال في العزيزي: وهي أجل مدن الغرب يعني في القديم. وكان عليها سور عظيم هدمه زيادة الله بن الأغلب. قال الأدريسي: وبينها وبين سبيطلة سبعون ميلاً.
ثم صارت قاعدتها بعد ذلك المهدية بفتح الميم وسكون الهاء وكسر الدال المهملة نسبة إلى المهدي. وهي مدينةٌ بناها عبيد الله المهدي جد الخلفاء الفاطميين بمصر في سنة ثلاث وثلثمائة؛ وموقعها في الإقليم الثالث أيضاً من الأقاليم السبعة حيث الطول ثلاثون درجة وأربعون دقيقة، والعرض اثنتان وثلاثون درجة فيما ذكره ابن سعيد. وهي على طرفٍ داخلٍ في البحر كهيئة كفٍّ متصلٍ بزند، والبحر محيطٌ بها غير مدخلها، وهو مكانٌ ضيقٌ كما في سبتة. ولها سورٌ حصين شاهقٌ في الهواء، مبني بالحجر الأبيض بأبراجٍ عظام. وبها القصور الحسنة المطلة على البحر.
ثم صارت قاعدتها بعد ذلك تونس بضم المثناة من فوق وسكون الواو وضم النون وفي آخرها سينٌ مهملة، وهي قاعدة هذه المملكة الآن، ومستقر سلطانها. وهي مدينةٌ قديمة البناء، واقعةٌ في الإقليم الثالث قال ابن سعيد: حيث الطول اثنتان وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة، والعرض ثلاثٌ وثلاثون درجة وإحدى وثلاثون دقيقة. وهي على بحيرةٍ مالحةٍ خارجةٍ من البحر الرومي، طولها عشرة أميال وتونس على آخرها.
قال البكري: ودور هذه البحيرة نحو أربعة وعشرين ميلاً. قال في العزيزي: وهي مدينةٌ جليلة، لها مياهٌ ضعيفةٌ جاريةٌ يزرع عليها، وفيها الخصب وكثرة الغلات. وهي في وطاءةٍ الأرض في سفح جبلٍ يعرف بأم عمرو، يستدير بها خندقٌ وسور حصين، ولها ثلاثة أرباضٍ كبيرة من جهاتها، وأرضها سبخة، وجميع بنائها بالحجر والأجرّ، وأبنيتها مسقفة بالأخشاب، ودور أكابرها مفروشةٌ بالرخام، وذم في الروض المعطار بيوتها فقال هي كما يقال: ظاهرها رخام، وباطنها سخام. وشرب أهلها من الأبار، وبيوتها صهاريج يجمع فيها ماء المطر لغسل القماش ونحوه، وبها الحمّامات والأسواق الجليلة، وبها ثلاث مدارس: وهي الشماعية والفرضية، ومدرسة الهواء، وبها البساتين البعيدة والقريبة منها، والبساتين محيطة ببحيرتها المقدم ذكرها من جنوبيها.
قال في مسالك الأبصار: ومذ خلا الأندلس من أهله، وأووا إلى جناح ملوكها، مصروا إقليمها، ونوعوا بعا الغراس، فكثرت مستنزهاتها، وامتد بسيط بساتينها.
قال: وبها يعمل القماش الأفريقي: وهو ثياب رفاع من القطن والكتان معاً ومن الكتان وحده، وهو أمتع من النصافي البغدادي وأحسن، ومنه جلٌ كساوى أهل المغرب.
وللسلطان بها قلعةٌ جليلةٌ يسكنها، يعبرون عنها بالقصبة كما هو مصطلح المغاربة في تسمية القلعة بالقصبة، وللسلطان بها بستانان: أحدهما ملاصق أرباض البلد برأس الطابية، والثاني بعيدٌ من البساتين يسمى بأبي فهر، بينه وبين البلد نحو ثلاثة أميال، والماء منساقٌ إليهما من ساقية بجبل يعرف بجبل زغوان بفتح الزاي وسكون الغين المعجمتين ونونٍ في الآخر، على مسيرة يومين من تونس.
وأما ما اشتملت عليه من المدن سوى القواعد المتقدمة الذكر.
فمن مشارق تونس سوسة بضم السين المهملة وسكون الواو وفتح السين الثانية ثم هاء.
وهي مدينة على ساحل البحر، واقعةٌ في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة، حيث الطول أربع وثلاثون درجةً وعشر دقائق، والعرض اثنتان وثلاثون درجة وأربعون دقيقة.
وهي في جنوبي تونس وشرقيها في طرفٍ داخل في البحر.
قال في العزيزي: وهي مدينة أزلية بها سوقٌ وفنادقٌ وحمامات. قال الأدريسي: وهي عامرةٌ بالناس، كثيرة المتاجر، والمسافرون إليها قاصدون وعنها صادرون، وعليها سورٌ من حجرٍ حصينٌ.
وذكر في مسالك الأبصار: أن عليها سوراً من لبن، وأنها قليلة العمارة لاستيلاء العرب عليها.
ومنها صفاقس بفتح الصاد المهملة ثم فاء والف وقافٍ مضمومة وفي أخرها سين مهملة.
وهي مدينة على ساحل البحر في شرقي المهدية، واقعةٌ في الإقليم الثالث قال ابن سعيد حيث الطول خمسٌ وثلاثون درجةً وثلاثون دقيقة، والعرض إحدى وثلاثون درجةً وخمسون دقيقة.
قال في تقويم البلدان: وهي مدينةٌ صغيرةٌ في مستو من الأرض، وجنوبيها جبل يسمى جبل السبع بفتح السين المهملة والباء الموحدة وعينٍ مهملة في الآخر.
يستدير عليها سورٌ، وشرب أهلها من الأبار، ولها بساتين قليلة، ومن بحرها يستخرج الصوف المعروف عند العامة يصوف السمك المتخذ منه الثياب النفسية.
قال ابن سعيد: أنا رأيته كيف يخرج، يغوص الغواصون في البحر فيخرجون كمائم شبيهةً بالبصل بأعناق، في أعلاها زويرة، فتنشر في الشمس فتنفتح تلك الكمائم عن وبر، فيمشط ويؤخذ صوفه فيغزل، ويعمل منه طعمة لقيام من الحرير، وتنسج منه الثياب.
ومنها قابسٌ بفتح القاف وألف ثم باء موحدة وفي آخرها سين مهملة.
وهي مدينة في الإقليم الثالث، حيث الطول اثنتان وثلاثون درجة وأربعون دقيقة، والعرض اثنتان وثلاثون درجة، على ثلاثة أميال من البحر.
قال في العزيزي: وعليها سور وخندق. قال في تقويم البلدان: وهي في أفريقية كدمشق في الشام، ينزل إليها نهران من الجبل في جنوبيها، يخترقان غوطتها، قال: وقد خصت من بلاد أفريقية بالموز وحب العزيز والخيار.
ومنها أطرابلس بفتح الهمزة وسكون الطاء وفتح الراء المهملتين وألفٍ وباء موحدة بعدها لام مضمومتان وسينٍ مهملة في الآخر.
وهي مدينة شرقيٌ تونس على البحر، واقعةٌ في الإقليم الثالث قال ابن سعيد حيث الطول ثمانٌ وثلاثون درجة، والعرض اثنتان وثلاثون درجة وعشرون دقيقة.
قال في تقويم البلدان: وهي آخر المدن التي شرقي القيروان، وإذا فارقها المسافر مشرقاً لا يجد مدينةً فيها حمام حتى يصل الإسكندرية.
وبناؤها بالصخر، وهي واسعة الكورة، وبها الخصب الكثير، وليس بها ماءٌ جارٍ، بل بها جباب عليها سواق.
قال في العزيزي: وبها مرسى للمراكب.
ومنها قصر أحمد وضبطه معروف، وموقعه في أول الإقليم الرابع، حيث الطول إحدى وأربعون درجة واثنتان وعشرون دقيقة، والعرض ثلاث وثلاثون دلرجة وسبعٌ وثلاثون دقيقة.
قال ابن سعيد: وهو حد أفريقية من الشرق وحد برقةً من الغرب. وهو قرية صغيرة، وحوله قصور نحو اثني عشر ميلاً، وهي بلاد زيتون ونخيلٍ، وأهلها يجلبون للإسكندرية، ومنها يركب المسافر البرية إلى الشرق.
ومن مغارب تونس على مسيرة يومين باجة قال في المشترك بفتح الباء الموحدة وألف وتخفيف الجيم ثم هاء.
وهي مدينةٌ بالإقليم الثالث قال في الأطوال حيث الطول تسع وعشرون درجة وخمسٌ وزأربعون دقيقة، والعرض إحدى وثلاثون درجة.
وهي مدينة كبيرة، ولها بساتين قليلة وعيون ماء، عليها سور حصين. مبنية في مستوٍ من الأرض، على نحو يوم من البحر، ويقابلها على البحر مرسى الخرز.
ومنها بنزرت بفتح النون وسكون الباء الموحدة وفتح الزاي المعجمة والراء المهملة وفي آخرها تاء مثناة من فوق، وقيل هي بتقديم الموحدة على النون، وهي مرسى تونس، وموقعها في الإقليم الثالث قال ابن سعيد حيث الطول ثلاثون درجة وخمسون دقيقة، والعرض ثلاث وثلاثون درجةً وثلاثون دقيقةً.
وهي مدينةٌ على نهر يجري في شرقيها وعليه مستنزهاتها.
قال في تقويم البلدان: ولها بحيرةٌ حلوةٌ في جنوبيها، بحيرة مالحةٌ في شرقيها، تصب كل واحدةٍ منهما في الأخرى ستة أشهر، فلا الحلوة تفسد بالمالحة ولا المالحة تعذب بالحلوة.
قال الشيخ عبد الواحد: أما زيادة الحلوة فبكثرة السيول أيام الشتاء، وتقل عنها السيول في أيام الصيف فتعلو عليها المالحة.
ومنها بونة قال في اللباب بضم الباء الموحدة وسكون الواو ثم نون وهاء.
قال في مسالك الأبصار: وهي المسماة الآن بلد العناب، وهي مدينةٌ على ساحل البحر في أول الإقليم الرابع قال ابن سعيد حيث الطول ثمانٌ وعشرون درجة، والعرض ثلاثٌ وثلاثون درجة وخمسون دقيقة.
قال في العزيزي: وهي مدينة جليلةٌ عامرة خصبة الزرع، كثيرة الفواكه، رخية، بظاهرها معادنٌ الحديد، ويزرع بها الكتان الكثير.
قال: وحدث بها عن قريب مغاص مرجانٍ، ولكن ليس كمرجان مرسى الخرز.
ومن قبلي تونس للجنوب بلاد الجريد.
ومنها تورز. قتال في تقويم البلدان عن الشيخ عبد الواحد: بضم المثناة من فوق وسكون الواو وفتح الزاي المعجمة وراء مهملة في الآخر.
وموقهعا في الإقليم الثالث قال ابن سعيد حيث الطول ستٌ وثلاثون درجة وسبع دقائق، والعرض تسعٌ وعشرون درجة وثمان دقائق.
وهي قاعدة بلاد الجريد، وبها بساتين ومحمضات ونخيلٌ وزيتونٌ؛ ولها نهر يسقي بساتينها، والمطر بها قليل، ويزرع بها الكتان والحناء.
قال في تقويم البلدان: وبذلك وبقلة المطر تشبه مصر. وقد عابها في الروض المعطار بأن أهلها يبيعون ما يتحصل في مراحيضهم من رجيع الناس، يفحلون به بقولهم وبساتينهم، ولكنهم لا يرغبون فيه إلا إذا كان جافاً، فيحملهم ذلك على عدم الأستنجاء في مراحيضهم، ويخرج أحدهم من بيته حتى يأتي القناة فيستنجي من مائها، وربما اتخذ أحدهم المراحيض على قارعة الطريق للواردين عليها ليأخذ ما يتحصل من ذلك فيبيعه.
ومنها قفصة بفتح القاف وسكون الفاء ثم صادٍ مهملة وهاء في الآخر.
وموقعها في الإقليم الثالث قال في الأطوال حيث الطول إحدى وثلاثون درجةً، والعرض ثلاثون درجة وخمسون دقيقة.
قال ابن سعيد: وهي قاعدة مشهورةٌ من بلاد الجريد بها النخيل والفستق.
قال: ولا يكون الفستق ببلاد المغرب إلا في قفصة. وبها من الفواكه والمشمومات أنواع كثيرة، ومنها يجلب دهن البنفسج وخل العنصل، وإليها ينسب جلد الأروى المتخذ منه النعال الشديدة الليونة.
ومنها المسيلة قال في تقويم البلدان عن الشيخ عبد الواحد؛ بكسر الميم والسين المهملة وسكون المثناة من تحت وفي آخرها لام ألف، والجاري على الألسنة فتح الميم وهاء في الآخر، وهي مدينةٌ من بلاد الجريد، موقعها في الإقليم الثالث قال ابن سسعيد حيث الطول ثلاثٌ وعشرون درجة وأربعون دقيقة، والعرض تسعٌ وعشرون درجةً وخمس وأربعون دقيقةً. قال في العزيزي: وهي مدينة محدثة، بناها القائم الفاطمي سنة خمس عشرة وثلاثمائة. قال ابن سعيد: ولها نهر يمر بغربيها ويغوص في رمال الصحارى.
ومنها بسكرة قال في اللباب بكسر الباء الموحدة وقيل بفتحها وسكون السين المهملة وكافٍ وراء مهملة بعدها هاء. وهي مدينةٌ من بلاد الجريد، في أواخر الإقليم الثاني قال ابن سعيد حيث الطول أربعٌ وعشرون درجةً وخمسٌ وعشرون دقيقة، والعرض سبعٌ وعشرون درجةً وثلاثون دقيقةً. قال ابن سعيد: وهي قاعدة بلاد الزاب، ولها بلادٌ ذات نخيلٍ وفواكه وزروع كثيرة، ومنها يجلب الثمر الطيب إلى تونس وبجاية.
ومنها طرا قال في تقويم البلدان عن عبد الواحد: بضم الطاء وتشديد الراء المهملتين وفي آخرها ألف، ونقل عن بعضعهم إبدال الألف هاء، وهي مدينةٌ من بلاد الجريد في الإقليم الثالث قال ابن سعيد: حيث الطول سبعٌ وثلاثون درجةً وعشرون دقيقة، والعرض تسعٌ وعشرون درجة، قال في تقويم البلدان: وبها يعمل الزجاج الصافي وتفاصيل الصوف، ومنها يجلب إلى الإسكندرية.
ومنها غذامس بفتح الغين والذال المعجمتين وألف وميم مكسورة وسينٍ مهملة. وهي مدينةٌ في الصحراء جنوبي بلاد الجريد، على طريق السودان المعروفين بالكانم، قال في العزيزي: وهي مدينةٌ جليلةٌ عامرة، وفي وسطها عينٌ أزلية عليها أثر بنيان رومي عجيب، يفيض الماء منها ويقتسمه أهل المدينة بأقساطٍ معلومة وعليه يزرعون.
وأهلها قومٌ من البربر مسلمون، قال في تقويم البلدان: وبها الجلود المفضلة، وليس لهم رئيس سوى مشايخهم.
ومنها قلعة سنان قال في مسالك الأبصار: وهو قصرٌ لا يعرف على وجه الأرض أحصن منه، على رأس جبلٍ منقطع عن سائر الجبال في غاية العلو بحيث يقصر سهم العقار عن الوصول إليه من سلمٍ نقر في الحجر طوله مائة وتسعون درجة، وبه مصانع يجتمع فيها ماء المطر، وبأسفله عين ماءٍ علها أشجار كثيرة الفواكه.
العمل الثاني: بلاد بجاية:
وبجاية بكسر الباء الموحدة وفتح الجيم وألفٍ ثم ياءٍ مثناة تحت وهاءٍ في الآخر مدينةٌ من مدن الغرب الأوسط، واقعةٌ في أوائل الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة قال ابن سعيد: حيث الطول اثنتان وعشرون درجة، والعرض أربعٌ وثلاثون درجة وخمسٌ وخمسون دقيقة. قال في تقويم البلدان: هي قاعدة الغرب الأوسط، وهي مقابل طرطوشة من الأندلس، وعرض البحر بينهما ثلاث مجارٍ.
قال في مساك الأبصار: وهي مدينةٌ قديمةٌ مستورةٌ، أضيف إلى جانبها ربضٌ أديرعليه سورٌ ضامٌ لنطاق المدينة فصارا كالشيء الواحد. قال: والربض في وطاءة، والمدينة القديمة في سفح جبل، يدخل إليها خورٌ من البحر الرومي تدخل منه المراكب إليها. قال في تقويم البلدان: ولها نهر في شرقيها، على شاطئه البساتين والمنازه.
قال في مسالك الأبصار: وبها عينان من الماء: إحداهما كبيرةٌ ومنها شرب أهلها، ولها نهر جارٍ على نحو ميلين منها، تحف به البساتين والمناظر على ضفتيه ممتدة نحو اثني عشر ميلاً، متصل بعضها ببعض لا انفصال بينهما إلا ما يسلك عليه من البساتين، إلى أن يصب في بحر الروم. وبضفتيه للسلطان بستانان متقابلان شرقاً وغرباً، الشرقي منهما يسمى الربيع.
وغربي بجاية جزائر بني مزغنان بفتح الميم وسكون الزاي، وكسر الغين المعجمتين ثم نونان بينهما ألف الأولى منهما مشددة، كما في تقويم البلدان عن الشيخ شعيب، وبعضهم يسقط النون الأخيرة، وفي مسالك الأبصار: مزغنانة بزيادة هاء في الآخر. وهي فرضةٌ مشهورةٌ هنالك. قال في مسالك الأبصار: وهي بلدةٌ حسنة على ساحل البحر، تقابل ميورقة من بلاد الأندلس، بانحرافٍ يسير، وبعدها عن بجاية ستة أيام.
ومن المدن التي بأعمال البجاية قسطينة قال في تقويم البلدان: بضم القاف وسكون السين وكسر الطاء المهملتين وسكون المثناة من تحت ثم نون وهاء. قال: وعن بعض المتأخرين أن بعد السين وقبل الطاء نوناً، وحينئذٍ فتكون بضم السين وسكون النون، وهي مدينةٌ من الغرب الأوسط في أواخر الإقليم الثالث قال ابن سعيد حيث الطول ست وعشرون درجة وأربعون دقيقةً، والعرض ثلاثٌ وثلاثون درجةً واثنتان وعشرون دقيقة. قال في تقويم البلدان: وهي على آخر مملكة بجاية وأول مملكة أفريقية. قال الأدريسي: وهي على قطعة جبلٍ منقطعٍ مربعٍ فيه بعض استدارة، لا يتوصل إليه إلا من جهة بابٍ من غربيها ليس بكثير السعة، ويحيط بها الوادي من جميع جهاتها. قال في تقويم البلدان: ولها نهر يصب في خندقها يسمع له دويٌ هائل، ويرى النهر في قعر الخندق مثل ذؤابة النجم لشدة ارتفاع البلد عن الخندق، قال الأدريسي: وهي مدينة عامرة، وبها أسواقٌ وتجاراتٌ. قال: وتقيم الحنطة في مطأميرها مائة سنة لا تفسد. وشرقي قسطينة في آخر مملكة بجاية مرسى الخرز بفتح الخاء المعجمة والراء املمهملة وزاي معجمة في الآخر. ومنه يستخرج المرجان من قعر البحر على ما تقدم في الكلام على الأحجار النفيسة فيما يحتاج الكاتب إلى وصفه من المقالة الأولى.
ومنها سطيف بفتح السين وكسر الطاء المهملتين ثم ياءٍ مثناة من تحت ساكنة بعدها فاء. وهي مدينة من المغرب الأوسط في الإقليم الثالث قال في الأطوال حيث الطول سبعٌ وعشرون درجةً، والعرض إحدى وثلاثون درجة. وهي مدينةٌ حصينة، بينها وبين قسطينة أربع مراحل، وزلهخا حصنٌ في جهة الجنوب، عن بجاية على مرحلتين منها، ولها كورة تشتمل على قرىً كثيرةٍ غزيرة المياه كثيرة الشجر المثمر بضروب من الفواكه، وبها الجوز الكثير، ومنها يحمل إلى شائر البلاد.
ومنها تاهرت- قال في اللباب: بفتح التاء المثناة فوق وألفٍ وهاءٍ وسكون الراء المهملة وفي آخرها تاء ثانية. قال في تقويم البلدان: ونقلت من خط ابن سعيد عوض الألف ياء مثناة تحت، قال وهو الأصح لأن ابن سعيد مغربي فاضلٌ. وهي مدينةٌ من الغرب الأوسط، وقسل من أفريقية في الإقليم الثالث قال في الأطوال حيث الطول خمسٌ وعشرون درجةً وثلاثون دقيقةً، والعرض تسعٌ وعشرون درجة. قال ابن حوقل: وهي مدينةٌ كبيرةٌ خصبة، كثيرة الزرع، كانت قاعدة الغرب الأوسط وبها كان مقام ملوك بني رستم حتى انقرضت دولتهم بدولة الفاطميين خلفاء مصر.
وذكر الأدريسي أنها كانت في القديم مدينتين: القديمة منهما على رأس جبل ليس بالعالي. قال في العزيزي: وتاهرت القديمة تسمى تاهرت عبد الخالق وهي مدينة جليلة كانت قديماً تسمى بغداد المغرب وتاهرت الجديدة على مرحلة منها، وهي أعظم من تاهرت القديمة، والمياه تخترق دورها أهلها.
وهي ذوات أسواق عامرة، وبأرضها مزارع وضياع جمة، ويمر بها نهر يأتيها من جهة المغرب، ولها نهر آخر يجري من عيون تجتمع فيه، منه شرب أهلها، وبها البساتين الكثيرة المونقة، والفواكه الحسنة، والسفرجل الذي ليس له نظير: طعماً وشماً، ولها قلعةٌ عظيمة مشرفةٌ على سوقها.
وتاهرت كثيرة البرد، كير الغيوم والثلج، وسورها من الحجر ولها ثلاثة أبواب، باب الصفا، وهو باب الأندلس، وباب النازل، وباب المطاحن.
وأما الطريق الموصل إليها، فقد ذكر صاحب الذيل على كامل ابن الأثير في التاريخ عن إيدغدي التليلي وايدغدي الخوارزمي، حين توجها رسولين إلى الغرب في سنة ست وسبعمائة: أن من إسكندرية إلى طليمثا ومنها إلى سرت، ومنها إلى سراتة، ومنها إلى طهجورة، ومنها إلى طرابلس، ومنها إلى قابس، ومنها إلى صفاقس، ومنها إلى المهدية، ومنها إلى سوسة، ومنها إلى تونس.
وأما طريقها في البحر، فمن إسكندرية إلى تونس.
الجملة الثالثة في ذكر زروعها وحبوبها وفواكهها وبقولها ورياحينها:
أما زروعها، فقد ذكر في مسالك الأبصار، أنها تزرع على الأمطار، وأن بها من الحبوب القمح، والشعير، والحمص، والفول، والعدس، والذرة، والدخن، والجلبان، والبسلا، واسمها عندهم البسين. أما الأرز فمجلوب إليها.
وأما فواكهها، فبها من الفواكه العنب والتين، كل منهما على أنواع مختلفة والرمان: الحلو والمز والحامض، والسفرجل، والتفاح، والكمثرى، والعناب، والزعرور، والخوخ، والمشمش على أنواع، والتوت الأبيض، والفرصاد، وهو التوت الأسود، والقراصيا، والزيتون، والأترج، والليمون، والليم، والنارنج، أما الجوز بها فقليل، وكذلك النخيل، والفستق، والبندق مفقود بها وكذلك الموز.
قال في مسالك الأبصار: وبها فاكهة تسمى مصغ وفق قدر البندقة، لونها بين الحمرة والصفرة، وطعمها بين الحموضة والقبض شبيهٌ بطعم السفرجل، يوجد في الشتاء، يقطف من شجره غضاً فيدفى، ويثقل كما يفعل بالموز فينضج ويؤكل حينئذ.
وتوجد بها قصب السكر على قلة ولا يعتصر بها. وبها البطيخ الأصفر على أنواع، والبطيخ الأخضر مع قلة، واسمه عندهم الدلاع، وكذلك الخيار والقثاء، وبها اللوبياء، واللفت، والباذنجان، والقنبيط، والكرنب، والرجلة، والبقلة اليمانية واسمها عندهم بلندس، والخس والهندباء على أنواع، وسائر البقول والملوخيا على قلة، والهليون، والصعتر.
وبها من الرياحين الأس، والورد ومعظمه أبيض، والياسمين، والنرجس، واللينوفر الأصفر والترنجاني، والمنثور، والمرزنجوش، والبنفسج والسوسن، والزعفران، والحبق، والنمام.
الجملة الرابعة في مواشيها ووحوشها وطيورها:
أما مواشيها، ففيها الخيل العراب المشابهة لخيل برقة، والبغال، والحمير والأبل، والبقر، وغنم الضأن والمعز.
وأما وحوشها، ففيها الغزلان، وبقر الوحش وحمره، والنعام، وغير ذلك.
وأما طيورها ففيها الدجاج، والحمام كثيراً، والأوز بقلة، وبها الكراكي، وهي صيد الملوك كما بمصر، وكذلك غيرها من طيور الصيد.
الجملة الخامسة فيما يتعلق بمعاملاتها من الدنانير والدراهم والأرطال والمكاييل والأسعار:
أما الدنانير، فإنها تضرب باسم ملكهم، وزنة كل دينار من دنانيرهم......... ويعبرون عنه بالدينار الكبير، وذهبهم دون الذهب المصري في الجودة، فهو ينقص عنه في السعر.
وأما الدراهم، فقد ذكر في مسالك الأبصار عن أبي عبد الله بن القويع: أن دراهمهم على نوعين: أحدهما يعرف بالقديم، والأخر بالجديد، ووزنهما واحدٌ إلا أن الجديد منهما خالص الفضة والقديم مغشوش بالنحاس للمعاملة، وتفاوت ما بينها أن كل عشرة دراهم عتيقة بثمانية دراهم جديدة، وإذا أطلق الدرهم عندهم فالمراد به القديم دون الجديد، ثم مصطلحهم أن كل عشرة دراهم عتيقة بدينار، وهذا الدينار عندهم مسمى لا حقيقة له، كالدينار الجيشي بمصر، والرائج بإيران.
وأما أرطالها، فزنه كل رطلٍ ست عشرة أوقيةً، كل أوقية أحد وعشرون درهماً من دراهمهما.
وأما كيلها، فلهم كيلان: أحدهما يسمى القفيز، وهو ست عشرة ويبةً، كل ويبة اثنا عشر مداً قروياً، وهو يقارب المد النبوي، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام والتحية والأكرام. وهو أيضاً ثمانية أمدادٍ بالكيل الحفصي: وهو كيلٌ قدره ملوكها الحفصيون: آباء ملوكها القائمين بها الآن، بقدر مد ونصف من المد المقدم ذكره. والثاني يسمى الصحفة وكل صحفة اثنا عشر مداً بالحفصي.
الجملة السادسة في ذكر أسعارها:
قد ذكر في مسالك الأبصار: أن أوسط الأسعار بها في غالب الأوقات أن يكون كل قفيز من القمح بخمسين درهماً، والشعير دون ذلك. قال: وغالب سحر اللحم الضأن عندهم كل رطل أفريقي بدرهم قديم، وبقية اللحوم دونه في القيمة، وفي الربيع ينحط السعر عن هذا القدر. وذكر أن الدجاجة الجيدة عندهم بدرهمين جديدين. ثم قال: وأحوالها مقاربة في ذلك للديار المصرية لقرب المجاورة، وقد ذكر في مسالك الأبصار: أن تونس وبجاية في المعملة ولسعر متقاربتان.
الجملة السابعة في صفات أهل هذه المملكة في الجملة:
قال في مسالك الأبصار: ولأهل أفريقية لطف أخلاق وشمائل بالنسبة إلى أهل بر العدوة وسائر بلاد المغرب، بمجاورتهم مصر وقربهم من أهلها، ومخالطتهم إياهم، ومخالطة من سكن عندهم من أهل إشبيلية من الأندلس.
وهم من هم خفة روح، وحلاوة بادرةٍ. قال: وهم عى كل حال أهل انطباع، وكرم طباع، وناهيك من بلاد شعر ملكها السلطان أبي العباس قوله: [طويل]
مواطننا في دهرهن عجائب ** وأزماننا لم تعدهن الغرائب

مواطن لم تحك التواريخ مثلها ** ولا حدثت عنها الليالي الذواهب

وقوله: [بسيط]
انظر إلينا تجدنا ما بنا دهشٌ ** وكيف يطرق أسد الغابة الدهش؟

لا تعرف الحادث المرهوب أنفسنا! ** فإننا بإرتكاب الموت ننتعش!

وقوله: [طويل]
عسى الله يدني للمحبين أوبةً ** فتشفى قلوبٌ منهم وصدور

وكم من قصي الدار أمسى بحزنه ** فأعقبه عند الصباح سرور

وإذا كان هذا رقة طبع السلطان، فما ظنك بغيره من العلماء والأدباء؟
الجملة الثامنة في ذكر من ملكها جاهليةً وإسلاماً:
أما ملوكها في الجاهلية قبل الإسلام، فإن بلاد المغرب كلها كانت مع البررة، ثم غلبهم الروم الكيتم عليها، وافتتحوا قاعدتها قرطاجنة وملوكها، ثم جرى بين الروم والبربر فتنٌ كثيرة كان آخرها أن وقع الصلح بينهم على أن تكون المدن والبلاد الساحلية للروم، والجبال والصحارى للبربر، ثم زاحم الفرنج الروم في البلاد، وجاء الإسلام والمستولي على بلاد المغرب من ملوك الفرنجة جرجيس ملكهم، وكان ملكه متصلاً من طرابلس من جهة الشرق إلى البحر المحيط من جهة الغرب، وكرسي ملكه بمدينة سبيطلة، وبقيت في يده حتى انتزعها المسلمون منه في سرية عبد الله بن أبي سرح، في خلافة عثمان بن عفان.
وأما ملوكها في الإسلام، فعلى أربع طبقات:
الطبقة الأولى: الخلفاء:
قد تقدم أن أول من افتتحها عبد الله بن أبي سرح في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، زحف إليها في عشرين ألفاً من الصحابة وكبار العرب، ففرق جموع النصرانية الذين كانوا بها: من الفرنجة، والروم، والبربر، وهدم سبيطلة قاعدتها وخربها، وعاثت خيول العرب في ديارهم إلى أن صالحوا عبد الله بن أبي سرح بثلثمائة قنطار من الذهب، وقفل عنهم سنة سبع وعشرين من الهجرة، بعد فتح مصر بسبع سنين أو ثمانٍ.
ثم أغزاها معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج السكوني سنة أربع وثلاثين.
ثم ولى معاوية عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري سنة خمس وأربعين، فبنى عقبة القيروان.
ثم استعمل معاوية على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد فعزل عقبة عن أفريقية وولى عليها مولاه أبا المهاجر ديناراً سنة خمس وخمسين. ولما استقل يزيد بن معاوية الخلافة، رجع عقبة بن نافع إلى أفريقية سنة اثنتين وستين.
ثم ولي عبد الملك بن مروان عليها زهير بن قيس البلوي في سنة سبع وستين إلى أن قتل في سنة تسع وستين فولى عليها حسان بن النعمان الغساني، فسار ودخل القيروان، وافتتح قرطاجنة عنوة وخربها، فخرجت عليه الكاهنة ملكة الغرب فهزمته، ثم عاد إليها وقتلها، واستولى على بلادها ثم رجع إلى عبد الملك واستخلف على أفريقية رجلاً اسمه صالح.
ثم ولى الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير بضم النون، فقدم القيروان وبها صالحٌ، ثم قفل موسى إلى المشرق واستخلف على أفريقية ابنه عبد الله.
ثم عزله سليمان بن عبد الملك في خلافته، وولى مكانه محمد بن يزيد.
ثم ولى عمر بن عبد العزيز في خلافته إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر.
ثم ولى يزيد بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج وكاتبه، فقدمها سنة إحدى ومائة فقتله البربر، وردوا محمد بن يزيد الذي كان عليهم قبله إلى ولايته، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك بذلك فأقره عليهم.
ثم ولى يزيد بن عبد الملك بشر بن صفوان الكلبي فقدمها سنة ثلاث ومائة؛ ومات سنة تسع ومائة.
ثم عزله هشام بن عبد الملك، وولى مكانه عبيدة بن عبد الرحمن السلمي فقدمها سنة عشر ومائة، ثم عزل هشام عبيدة، وولى مكانه عبد الله بن الحباب مولى بني سلول، فقدمها سنة أربع عشرة ومائة، وبنى جامع تونس، واتخذ بها دار الصناعة للمراكب البحرية.
ثم عزله هشام بن عبد الملك وولى مكانه كلثوم بن عياض ثم قتل فبعث هشام بن عبد الملك على أريقية حنظلة بن صفوان الكلبي فقدمها سنة أربع وعشرين ومائة، فخرج عليه عبد الرحمن بن حبيب سنة ست وعشرين ومائة، فقفل حنظلة إلى المشرق سنة سبع وعشرين، واستقل عبد الرحمن بملك أفريقية.
وولي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فكتب له بولايتها.
ثم كانت دولة بني العباس فأقره عليها السفاح، ثم المنصور، ثم قتل سنة سبع وثلاثين لعشر سنين من إمارته واشترك في إمارتها حبيب بن عبد الرحمن، وعمه عمران بن حبيب، وأخوه إلياس بن عبد الرحمن ثم قتله عبد الملك بن أبي الجعد ثم غلب عليها عبد الأعلى بن السمح المعافري.
ثم ولى أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث الخزاعي فقدم القيروان سنة خمس وأربعين ومائة، وبنى سورها.
ثم ثارت عليه المضرية وأخرجوه منها سنة ثمان وأربعين، وولوا عليهم عيسى بن موسى الخراساني.
ثم ولى أبو جعفر المنصور عليها الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة بن سوادة التميمي بعده، فقدم القيروان وسكن الناس، ثم قتل سنة خمسين ومائة، وقام بأمر أفريقية المخارق بن غفار.
ولما بلغ المنصور قتل الأغلب، بعث مكانه عمر بن حفص بن قبيصة، ابن أبي صفرة التميمي أخي المهلب، فقدمها سنة إحدى وخمسين. ثم انتقضت عليه البربر فضعف أمره، فولى يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، بن أبي صفرة التميمي، ودخل القيروان منتصف سنة خمس وخمسين، وهلك سنة سبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد، وأقام بأمره بعده ابنه داود.
ثم ولى الرشيد أخاه روح بن حاتم فقدمها منتصف سنة إحدى وسبعين ومائة، ومات في رمضان سنة أربع وسبعين، فقام حبيب بن نصر مكانه، وسار ابنه الفضل إلى الرشيد فولاه مكان أبيه، فعاد إلى القيروان في المحرم سنة سبع وسبعين ومائة، ثم قتله ابن الجارود في منتصف سنة ثملن وسبعين ومائة فولى الرشيد مكانه هرثمة بن أعين فسار إلى القيروان، وقدمها سنة تسع وسبعين ومائة، ثم استعفى فأعفاه الرشيد لسنتين ونصف من ولايته.
وولى مكانه محمد بن مقاتل الكعبي فقدم القيروان في رمضان سنة إحدى وثمانين، وكان سيء السيرة.
ثم ولى الرشيد إبراهيم بن الأغلب فقدم أفريقية منتصف سنة أربع وثمانين ومائة، وابتنى مدينة العباسية بالقرب من القيروان وانتقل إليها. وفي ولايته ظهرت دعوة الأدارسة من العلوية بالمغرب الأقصى. ثم مات إبراهيم في شوال سنة ست وتسعين ومائة بعد أن عهد لابنه أبي العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب بالولاية، فقدم القيروان في صفر سنة سبع وتسعين ومائة. ثم مات في ذي الحجة سنة إحدى ومائتين.
وولى مكانه أخوه زيادة الله بن إبراهيم وجاءه التقليد من قبل المأمون، وفي ولايته كان ابتداء فتح صقلية على يد أسد بن الفرات، وتوفي في رجب سنة ثلاث وعشرين ومائتين لاحدى وعشرين سنةً ونصفٍ من ولايته.
وولي مكانه أخوه أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب، وتوفي في ربيع سنة ست وعشرين ومائتين.
وولي بعده ابنه أبو العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم فدانت له أفريقية وبنى مدينةً بقرب تاهرت وسماها العباسية، سنة سبع وثلاثين ومائتين، وبنى قصر سوسه وجامعها سنة ست وثلاثين ومائتين، وتوفي سنة ثنتين وأربعين.
وولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد بن أبي العباس محمد بن الأغلب فأحسن السيرة، وكان مولعاً بالعمارة، فبنى بأفريقية نحواً من عشرة الأف حصن، وتوفي آخر سنة تسع وأربعين لثمان سنين من ولايته.
وولي مكانه ابنه زياد الله الأصغر بن أبي إبراهيم أحمد، وتوفي آخر سنة خمسين ومائتين.
وولي مكانه أخوه محمد أبو الغرانيق بن أبي إبراهيم أحمد، ففتح جزيرة مالطة سنة خمس وخمسين ومائتين، وبنى حصوناً ومحارس على مسيرة خمسة عشر يوماً من برقة من جهة المغرب وهي الآن معروفةٌ به.
وفي أيامه كان أكثر فتوح صقلية. فلما مات حمل أهل القيروان أخاه إبراهيم بن أحمد أخي أبي الغرانيق على الولاية عليهم لحسن سيرته فامتنع، ثم أجاب وانتقل إلى قصر الأمارة وقام بالأمر أحسن قيام. وكان عادلاً حازماً فقطع أهل البغي والفساد وجلس لسماع الظلامات، وبنى الحصون والمحارس بسواحل البحر، حتى كانت النار توقد في ساحل سبتة للإنذار بالعدوة فيتصل إيقادها بالأسكندرية في الليلة الواحدة، وبنى سور سوسة وانتقل إلى تونس فسكنها. وفي أيامه ظهرت دعوة العبيدين بالغرب، ثم مات سنة تسع وثمانين ومائتين.
وولي ابنه أبو العباس عبد الله بن إبراهيم أخي محمدٍ أبي الغرانيق، وكان عادلاً، حسن السيرة، بصيراً بالحروب، فنزل تونس مكان أبيه ودخلوا في أمره جملةً وجرى بينه وبينه حروب، ثم قتل في شعبان سنة تسعين ومائتين.
وولي ابنه أبو مضر زيادة الله فأقبل على اللذات واللهو، وأهمل أمور الملك، وقتل أخاه وعمومته وأخواته، وقوي حال الدعاة لعبيد الله المهدي جد الخلفاء الفاطميين بمصر فحمل زيادة الله أمواله وأثقاله ولحق بمصر، فمنعه عاملها من الدخول إليها إلا بأمر المقتدر الخليفة، فسار إلى العراق فاستأذن عليه، فأتاه كتاب المقتدر بالرجوع إلى القيروان وإظهار الدعوة، فوصل إلى مصر فأصابه بها علة سقط منها شعره، ورجع إلى القدس فمات بها، وانقرضت دولة بني الأغلب بالمغرب.
الطبقة الثانية: العبيديون:
وكان مبدأ أمرهم أن محمداً الحبيب بن جعفر المصدق، بن محمد المكتوم، بن إسماعيل الأمام، بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي زين العابدين، بن الحسين السبط، بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان مقيماً بسلمية من أعمال حمص، وكان أهل شيعتهم بالعراق واليمن وغيرهما يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين عليه السلام، فلما أدركته الوفاة عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرةً بعيدة وتلقى محنة شديدةً، وشاع خبر ذلك في الناس، واتصل بالمكتفي خليفة بني العباس ببغداد فطلبه ففر من الشام إلى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه أبو القاسم غلاماً حدثاً وخاصته، وكان أبو عبد الله الشيعي قد بعث إليه بخبره بما فتح الله عليهم من البلاد الغربية فعزم عل اللحوق به، وخرج من مصر إلى أفريقية في زي التجار، وسار حتى وصل إلى سجلماسة من بلاد المغرب، فورد على عاملها كتابٌ بالقبض عليه، فقبض عليه وحبسه هو وابنه أبا القاسم.
ولما استفحل أمر أبي عبد الله الشيعي، استخلف على أفريقية أخاه أبا العباس وارتحل إلى سجلماسة، فأخرج المهدي وابنه من الحبس وبايع للمهدي، ثم ارتحلوا إلى أفريقية ونزلوا رقادة في ربيع سنة سبع وتسعين ومائتين، وبويع للمهدي البيعة العامة واستقام أمره وبعث العمال على النواحي.
وولى عهده ابنه أبا القاسم محمداً ويقال نزار، وبنى مدينة المهدية، وجعلها دار ملكه. ولما فرغ منها صعد على سورها ورمى بسهم في جهة المغرب، وقال: إلى هنا ينتهي صاحب الحمار فكان الأمر كذلك. وذلك أنه خرج بالمغرب خارجي اسمه أبو يزيد يعرف بصاحب الحمار وتبعه الناس فقصد مدينة المهدية يريد فتحها فانتهى إلى حيث انتهى سهم المهدي ثم رجع من حيث أتى فعظم أمر المهدي واستولى على فاس، ودخل ملوكها من الأدراسة تحت طاعته في سنة ثمان وثلثمائة، ومهد المغرب، ودوخ أقطاره، وتوفي في ربيع الأول سنة ثنتين وعشرين لأربعٍ وعشرين سنة من خلافته.
وولي بعده ابنه القائم بأمر الله أبو القاسم المتقدم ذكره، وفي أيامه خرج أبو يزيد صاحب الحمار.
وتوفي سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، وكان قد عهد إلى ابنه المنصور بالله إسماعيل، فقام بالأمر بعده، وكتم موت أبيه فلم يتسم بالخليفة ولا غير السكة والخطبة والبنود، وتوفي سلخ رمضان سنة إحدى وأربعين وثلثمائة لسبع سنين من خلافته.
وولي الأمر بعده ابنه المعز لدين الله معد فاستقام له الأمر، وانتهت مملكته بالغرب إلى البحر المحيط، وافتتح مصر على يد قائده جوهر في منتصف شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، واختط له القاهرة، ثم قدم المعز من مصر، ودخل القاهرة لخمس من رمضان سنة ثنتين وستين وثلثمائة على ما سبق في الكلام على مملكة الديار المصرية.
الطبقة الثالثة: ملوكها من بني زيري:
كان المعز معد الفاطمي حين قدم مصر على ما تقدم استخلف على أفريقية والمغرب بلكين بن زيري بن مياد البربري، ويقال: الحميري وأنزله القيروان، وسماه يوسف، وكناه أبا الفتوح، ولقبه سيف الدولة وبقي حتى توفي سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة ومات المعز بالقاهرة، وانتقلت الخلافة بعده إلى ابنه العزيز نزار، فولى على أفريقية والمغرب بعد بلكين ابنه المنصور بن بلكين بولاية عهد من أبيه وبقي حتى توفي سنة خمس وثمانين وثلثمائة.
وقام بأمره بعده ابنه باديس بن المنصور فبقي حتى توفي سنة ست وأربعمائة بمعسكره فجأة وهو نائم بين أصحابه.
وبويع ابنه المعز بن باديس وهو ابن ثماني سنين، واستمر ملكه بأفريقية وعظم ملكه بها؛ وكان المعز منحرفاً عن الرفض والتشيع، منتحلاً للسنة، وأعلن بذلك في أول ولايته؛ ثم كان آخر أمره أن خلع طاعة العبيدين، وقطع الخطبة لهم بأفريقية سنة أربعين وأربعمائة على عهد المستنصر العبيدي خليفة مصر، وخطب للقائم القادر الخليفة العباسي ببغداد، فاضطرب لذلك ملكه، وثارت عليه الثوار، وملكوا منه النواحي؛ ومات المعز سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
وقام بأمره من بعد ابنه تميم بن المعز بن باديس وغلبه العرب على أفريقية، فلم يكن له إلا ما ضمه السور، واستمرت الثوار في أيامه وبقي حتى هلك سنة احدى وخمسمائة.
وملك بعده ابنه يحيى بن تميم فراجع طاعة العبيدين خلفاء مصر، ووصلته منهم المخاطبات والهدايا والتحف، وأكثر في غزو النصارى من الفرنجة وغيرهم، حتى لقبوه بالجرية من وراء البحر، ومات فجأة في قصره سنة تسع وخمسمائة.
وملك بعده ابنه علي بن يحيى وقام بالأمر على طاعة خلفاء العبيدين بمصر، ومات سنة خمس عشرة وخمسمائة.
وملك بعده ابنه الحسن بن علي وهو ابن اثنتي عشرة سنةً، وقام بأمره مولاه صندل، ثم مولاه موفق وغلبه النصارى على المهدية وبلاد الساحل كلها إلى ان استنقذها منهم عبد المؤمن شيخ الموحدين، ولحق الحسن بالجزائر ونزل بها إلى أن فتح الموحدون الجزائر سنة سبع وأربعين وخمسمائة بعد ملكهم المغرب والأندلس، فخرج إلى عبد المؤمن فأحسن إليه وبقي معه حتى افتتح المهدية فأنزله بها، فأقام بها ثماني سنين. ثم سار إلى مراكش فمات في طريقه، وانقرضت دولة بني باديس من أفريقية في أيامهم عند وقوع الفتن.
الطبقة الرابعة: الموحدون أصحاب المهدي بن تومرت:
وهم القائمون بها إلى الآن، وكان أول من افتتحها منهم عبد المؤمن بن علي أحد أصحاب ابن تومرت والخليفة بعده. وذلك أنه لما وقع بها ما تقدم من الأضطراب وقيام الثوار واستيلائهم على النواحي، وكان الموحدون قد استولوا على الأندلس والغرب الأقصى والغرب الأوسط إلى بجاية، بعث عبد المؤمن المذكور العساكر إلى أفريقية مع ابنه عبد الله في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، فافتتح أفريقية، واستكمل فتحها سنة ست وخمسين. وولى عليها ابنه السيد أبا موسى عمران بن عبد المؤمن وأسره علي بن يحيى المعروف بابن غانية عند فتحه بجاية، واعتقله بها في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
ولما ولي المنصور يعقوب بن عبد المؤمن بعد أبيه عبد المؤمن، ولى على أفريقية في أول ولايته أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص عمر، ثم غلب ابن غانية على أكثر بلاد أفريقية واستولى على تونس، وخطب للخليفة العباسي ببغداد، ثم جهز الناصر بن المنصور بن عبد المؤمن الشيخ أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص من مراكش إلى أفريقية سنة ثنتين وستمائة فانتزعها من ابن غانية، ثم وصل الناصر بن المنصور إلى أفريقية بعد ذلك ودخل تونس، وأقام بها إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة، وعزم على الرحيل إلى مراكش فروى نظره فيمن يوليه أمرها فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص، ورحل الناصر إلى المغرب وقعد مقعد الأمارة بقصبة تونس يوم السبت العاشر من شوال سنة ثلاث وستمائة وبقي حتى توفي مفتتح سنة ثمان عشرة وستمائة.
وولي بعده ابنه الأمير أبو زيد عبد الرحمن وقعد بمجلس أبيه في الأمارة وورد كتاب المستنصر بن الناصر خليفة بني عبد المؤمن بعزله لثلاثة أشهر من ولايته.
وولى المستنصر مكانه السيد أبا العلى إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، ودخل إلى تونس في ذي القعدة من السنة المذكورة، فنزل بالقصبة ورتب الأمور؛ ومات بتونس سنة عشرين وستمائة.
ثم مات المستنصر وصار الأمر لعبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فبعث بولاية أفريقية إلى أبي زيد بن أبي العلي.
ثم صار الأمر إلى العادل فولى أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص، ودخل تونس سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأقام في إمارته إلى أن ثار عليه أخوه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي محمد عبد الواحد وولي مكانه ودخل تونس في رجب سنة خمس وعشرين وستمائة، وافتتح قسنطينة وبجاية سنة ست وعشرين وانتزعهما من بني عبد المؤمن.
ثم ملك تلمسان من يدهم بعد ذلك وبايعه أهل الأندلس، ومات ببونة لسبع بقين من جمادى الأخرة سنة سبع وأربعين وستمائة لثنتين وعشرين من سنة ولايته.
وبويع بعده ابنه وولي عهده المستنصر بالله أبو عبد الله محمد ودخل تونس في رجب من السنة المذكورة، فجدد بيعته بها وهو أول من تلقب من الحفصيين بألقاب الخلافة كما سيأتي. وأنتهى أمره إلى أن بويع له بمكة المعظمة، وبعث بالبيعة إليه، واستولى على ما كان بيد أبيه من الغرب الأوسط ببجاية وقسنطينة، وفتح الجزائر، وبقي حتى مات يوم الأضحى سنة خمس وسبعين وستمائة.
وبويع بعده ابنه الواثق يحيى بن المستنصر ليلة موت أبيه، فأحسن السيرة، وبسط في الرعية العدل والعطاء؛ وبعث إليه أهل بجاية بالبيعة، وخرج عليه عمه أبو إسحاق أخو المستنصر ودخل بجاية، وبايعه أهلها في ذي القعدة سنة سبع وسبعين واستولى على قسنطينة، وقوي أمره ببجاية وما معها، وبلغ ذلك الواثق بن المستنصر، قتيقن ذهاب الملك منه فانخلع عن الأمر لعمه أبي إسحاق إبراهيم بن يحيى، ومن هنالك عرف بالمخلوع وأشهد على نفسه بذلك في أول ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة، وبلغ ذلك السلطان أبا إسحاق فسار إلى تونس، ودخلها في نصف ربيع الآخر من السنة المذكورة، واستولى على المملكة جميعها واعتقل الواثق وبنيه، ثم دس عليهم من ذبحهم في الليل في صفر سنة تسع وسبعين وستمائة، وبقي حتى خرج عليه أحمد بن روق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة سنة إحدى وثمانين وستمائة، وكان شبيهاً بالفضل بن يحيى المخلوع فعرف بالدعي، واستولى على تونس بعد خروج السلطان أبي إسحاق منها، ولحق أبو إسحاق ببجاية فمنعه ابنه الأمير أبو فارس عبد العزيز من الدخول إليها فانخلع له عنها وأشهد عليه بذلك، ودعا الناس إلى بيعته في آخر ذي القعدة من السنة المذكورة فبايعوه وتلقب بالمعتمد، ثم كان بين الدعي والأمير أبي فارس واقعة قتل فيها الأمير أبو فارس في سنة ثنتين وثمانين وستمائة. وخرج السلطان أبو إسحاق فلحق بتلمسان ومعه ابنه الأمير أبو زكريا، ودخل أهل بجاية في طاعة الدعي.
ثم خرج على الدعي الأمير أبو حفص عمر بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، فكانت بينهما حرب انهزم الدعي في آخرها. واستولى أبو حفص على تونس وسائر المملكة، وتلقب بالمستنصر واختفى الدعي، ثم ظفر به أبو حفص بعد ذلك وقتله، وبايعه أهل تلمسان وطرابلس وما بينهما.
وخرج الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق على بجاية وقسنطينة فملكهما واقتطعهما عن مملكة أفريقية، وقسم دولة الموحدين بدولتين، ولم يزل السلطان أبو حفص في ملكه إلى أن مرض في ذي الحجة سنة أربع وستين وستمائة ومات آخر ذي الحجة من السنة المذكورة.
وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وأبوه ترك جاريةً حاملاً، فسماه الشيخ محمد المرجاني محمداً وأطعم الفقراء يومئذٍ عصيدةً من عصيدة البر فلقب بأبي عصيدة، فلما مات السلطان أبو حفص بايع الناس أبا عصيدة المتقدم ذكره.
ومات الأمير أبو زكريا صاحب بجاية وما معها على رأس المائة السابعة.
وقام بعده في تلك الناحية ولي عهده ابنه أبو البقاء خالد فاستمر في تلك الناحية، وبقي السلطان أبو عصيدة في مملكة أفريقية حتى مات في ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة ولم يخلف ابناً.
وكان بالقصر أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر، بن يحيى، بن عبد الواحد، بن أبي حفص في كفالة السلطان أبي عصيدة فلما مات أبو عصيدة بايعه أهل تونس، ثم ارتحل السلطان أبو البقاء خالد: صاحب بجاية إلى جهة تونس طالباً ملكها بعد أبي عصيدة، فخرج أبو بكر الشهيد في أهل تونس للقائه فانهزموا عنه، وقبض على أبي بكر الشهيد واعتقل ثم قتل بعد ذلك فسمي الشهيد، واستقل السلطان أبو البقاء خالد بملك تونس وبجاية وحاز جميع المملكة، وتقلب الناصر لدين الله وبقي حتى بويع أبو يحيى زكرياً بن أحمد بن محمد اللحياني، ابن عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص: فبويع بطرابلس، وخرج على أبي البقاء خالد فخافه فخلع نفسه فاعتقل وجاء السلطان أبو يحيى على أثره في رجب سنة إحدى عشرة وسبعمائة فبويع البيعة العامة ودخل تونس واستولى عليها؛ ثم اضطرب عليه أمره، فخرج من تونس إلى قابس أول سنة سبع عشرة وسبعمائة بعد أن استخلف بتونس، وانتهى إلى قابس فأقام بها وصرف العمال في جهاتها؛ وقصد السلطان أبو بكر صاحب بجاية تونس، وكان بينه وبين أهلها وقعةٌ انتهى الحال في آخرها الى أن السلطان أبا بكر رجع إلى بجاية. وبايع أهل تونس محمداً المعروف بأبي ضربة ابن السلطان أبي يحيى في سنة سبع عشرة المذكورة.
ثم قصد السلطان أبو بكر صاحب بجاية تونس، وبها أبو ضربة فغلبه عليها، ودخلها في ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وبويع بها البيعة العامة.
ولحق السلطان أبو يحيى اللحياني بمصر في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون فأحسن نزله وأقام عنده الى أن مات، ولحق ابنه أبو ضربة بتلمسان فأقام بها إلى أن مات، واستقل السلطان أبو بكر بأفريقية وبجاية الى أن غلبه على تونس إبراهيم بن أبي بكر الشهيد المتقدم ذكره أولاً، ودخلها في رجب سنة خمس وعشرين وسبعمائة.
ثم غلبه عليها السلطان أبو بكر وانتزعها من يده في شوال من السنة المذكورة واستقر في يده ملك أفريقية وبجاية إلى أن مات فجأة في جوف الليل في ليلة الأربعاء ثاني رجب الفرد سنة سبع وأربعين وسبعمائة بمدينة تونس.
وبويع ابنه أبو حفص عمر بن أبي بكر من ليلته، وجلس من الغد وبويع البيعة العامة.
وكان أبوه قد عهد إلى ابنه الآخر أبي العباس أحمد، وكان ببلاد الجريد فاستجاش على أخيه وقدم عليه تونس، وكانت بينهما واقعة قتل فيها أبو العباس واستقر السلطان أبو حفص على ولايته.
وكان للسلطان أبو بكر حين عهد لابنه أبي العباس أرسل العهد الى السلطان أبي الحسن المريني: صاحب تلمسان وسأله في الكتابة عليه، فلما قتل أبو العباس المذكور ثقل ذلك على السلطان أبي الحسن وخرج الى أفريقية في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ووصل إلى بجاية ثم الى قسنطينة فملكهما، ثم سار الى تونس فلقيه السلطان أبو حفص عمر، وكانت بينهما واقعة قبض فيها على أبي حفص ثم قتل.
ودخل السلطان أبو الحسن الى تونس واستولي على جميع المملكة مضافةً إلى مملكته، وكمل له ذلك ملك جميع المغرب.
ثم غلب أبو العباس الفضل ابن السلطان أبي بكر على بجاية وقسنطينة ومملكهما، وسار السلطان أبو الحسن إلى المغرب واستخلف على تونس ابنه أبا الفضل فسار الفضل ابن السلطان أبي بكر من بجاية إلى تونس فخرج منها أبو الفضل بن أبي الحسن فاراً إلى أبيه بالمغرب، ودخلها الفضل ابن السلطان أبي بكر وملكها سنة تسع وأربعين وسبعمائة واستولى على جميع المملكة، وبقي الى أن قبض عليه في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
وبويع بعده أخوه أبو إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي بكر، وهو يومئذ غلام قد ناهز الحلم، وقتل الفضل في جوف الليل من الليلة ألقابلة خنقاً، واستولى على أفريقية وبجاية وقسنطينة، وبقي حتى غلبه بنو مرين على بجاية وقسطنينة وملكهما منه أبو عنان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
ثم استولى السلطان أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر على قسنطينة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وبويع بها.
ثم غلبه عليها أبو عنان وقفل إلى المغرب سنة سبع وخمسين وقد استخلف بها، فتجهز اليها أبو إسحاق إبراهيم صاحب تونس وملكها من يد عامل أبي عنان سنة إحدى وستين، ثم قوي أمر السلطان أبي العباس وعاد إلى قسنطينة وملكها في السنة المذكورة.
ثم استولى أبو عبد الله محمد بن محمد ابن السلطان أبي بكر في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة فأساء السيرة بها، فسار إليه السلطان أبو العباس من تونس فقتله ودخل بجاية تاسع عشر شعبان سنة سبع وستين وسبعمائة وملكها، وبقيت بيده وتونس بيد السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي بكر إلى أن توفي السلطان أبو إسحاق فجاءه في الليل في سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
وبويع بعده ابنه أبو البقاء خالد واستبد عليه منصور مولى أبيه، وابن الباليقي حاجب أبيه فلم يكون له في الدولة تحكم.
ثم رحل السلطان أبو العباس من بجاية إلى تونس وقبض على السلطان أبي البقاء خالد بن إبراهيم بعد حصاره أياماً واعتقله وملك تونس وانتظم في ملكه أفريقية وبجاية وقسنطينة وأعمالها، وبقي حتى مات في شعبان سنة ست وثمانين وسبعمائة.
وكان أبو العباس هذا له شعر رائق، طلب مرةً كاتب إنشائه يحيى بن أجاد، وكان يحيى ثملاً، فخافه على نفسه إن طلع إليه على تلك الحالة فكتب إليه [مجزوء الخفيف].
أصبح العبد يحيى ** كصباح ابن أكثم

شغلته الحميا ** وهو بالأمر مهتم

فخشي من رقيبٍ ** فرأى الدار أكتم

فلما قرأها وقع بخطه تحت خطه: [مجزوء الخفيف]
قر عيناً بعيشٍ ** صفوه بك قد تم

أأنت أزكى عبيدي ** ها هنا كنت أوثم

فكان ذلك سبب توبة يحيى.
وبويع بعده ابنه أبو فارس عزوز في رابع شعبان من السنة المذكورة واستولى على تونس وبجاية وقسنطينة وسائر أعمالها. وهو السلطان أبو فارس عزوز ابن السلطان أبي العباس أحمد، ابن السلطان أبي بكر بن يحيى، بن إبراهيم، بن عبد الواحد، ابن الشيخ أبي حفص.
قلت: وهو باقٍ إلى زماننا في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وقد شاع ذكر شجاعته وعدله حتى إنه دوخ البلاد ومهدها وقتل العرب وأبادهم، ودخل من بقي منهم في طاعته بعد أن لم يدينوا لطاعة غيره، وقطع المكوس من بلاده، وأزال الحانات من تونس، مع تواضع، وقرب من الفقراء، وأخذ بيده المظلومين، ووجوه بر رتبها وقررها لم تعهد لأحد ممن قبله، إلى غير ذلك من صفات الملوك المحمودة التي امتاز بها عن الملوك، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
الجملة التاسعة في منتمى ملوك هذه المملكة القائمين بها الآن من الموحدين في النسب ودعواهم الخلافة وبيان أصل دولتهم وتسميتهم الموحدين:
أما منتماهم في النسب، فقد ذكر في التعريف: أن الملك القائم بها في زمانه يدعي النسب إلى أمير المؤمنين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن أهل النسب من ينكر ذلك: فمنهم من يجعله من بني عدي بن كعب رهط عمر، وليس من بني عمر، ومنهم من يقول بل من هنتاتة وليسوا من قبائل العرب في شيء.
وهم الحفصيون نسبة إلى أبي حفص: أحد العشرة أصحاب ابن تومرت.
وهم بقايا الموحدين إذا كان من تقرير ابن تومرت أن الموحدين هم أصحابه، ولم يبق ملك الموحدين إلا في بني أبي حفص هذا.
واعلم أن النسابين قد اختلفوا في نسبه على ثلاثة أقوال.
أحدها- نسبته إلى أمير المؤمنين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهؤلاء يقولون: هو أبو حفص عمر بن يحيى، بن محمد، بن وانودين، بن علي، بن أحمد، بن والأل، بن إدريس، بن خالد، بن اليسع، بن إلياس، بن عمر، بن وافتق، بن محمد، بن نجيه، بن كعب، بن محمد، بن سالم، بن عبد الله، بن عمر بن الخطاب، قال قاضي القضاة ولي الدين بن خلدون ويظهر أن هذا النسب القرشي وقع في المصامدة من البربر، والتحم بهم واشتملت عليه عصبيتهم، شأن الأنساب التي تقع من قومٍ الى قوم.
الثاني- نسبته إلى بني عدي بن كعب: رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ينتسب فيه، وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب جد النبي صلى الله عليه وسلم وباقي نسبه الى عدنان معروف.
الثالث- نسبته إلى هنتاتة، وهنتاته- بفتح الهاء وإسكان النون وفتح التاء المثناة فوق وبعدها ألف ثم تاء مثناة فوق مفتوحة ثم هاء قبيلة من قبائل المصامدة من البربر، بجبال درن المتاخمة لمراكش، وهي قبيلة واسعةٌ كبيرةٌ، ويقال لها بالبربرية ينتي وكان أبو حفص هذا هو شيخهم وكبيرهم، وهو الذي دعاهم إلى اتباع ابن تومرت والحمل على طاعته.
وأما دعواهم الخلافة، فقد قال في التعريف عند ذكر سلطان زمانه منهم: لا يدعي إلا الخلافة ويتلقب بألقاب الخلفاء، ويخاطب بأمير المؤمنين في بلاده.
واعلم أن أول من تلقب منهم المستنصر بالله أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص، على أن أباه كان يمتنع من التلقب بألقاب الخلافة، ويمنع من يخاطبه بها مقتصراً على التلقب بالأمير خاصةً حتى إن بعض شعرائه رفع اليه قصيدةٌ مدحه بها أولها: وافر.
الأ جل بالأمير المؤمنينا ** فأنت بها أحق العالمينا

فأنكر ذلك عليه. وإنما حمل المستنصر على ذلك أن الخلافة في زمنه قد تعطلت في سائر الأقطار.
وذلك أن الخلافة الأموية ودعاوى بني عبد المؤمن قد زالت عنها في المغرب بغلبة بني مرين عليهم وانتزاعهم الأمر منهم، وخلافة العبيديين قد زالت من مصر، وخلافة بني العباس قد زالت من بغداد باستيلاء التتر عليها.
وأما مبدأ دولتهم ومصير آخرها إلى بني أبي حفص بأفريقية، فإذا أصل قيامها ابن تومرت: وهو محمد بن عبد الله تومرت، بن وجليد، بن يا مصال، بن حمزة، ابن عيسى فيما ذكره محققو المؤرخين.
وبعضهم يقول: محمد بن تومرت، بن نيطاوس، بن سافلا، بن مسعيون، بن ايكلديس، بن خالد، أصله من هرغة من بطون المصامدة من البربر.
وبعض المؤرخين يجعل نسبه في أهل البيت ويقول: هو محمد بن عبد الله، بن عبد الرحمن، بن هود، بن خالد، بن تمام، بن عدنان، بن سفيان، بن صفوان، بن جابر، بن عطاء، بن رباح، بن محمد، من ولد سليمان بن عبد الله، بن حسن، بن الحسن، بن علي، بن أبي طالب.
وسليمان هذا أهو إدريس الأكير الذي كان لبنيه الدولة بالغرب على ما مر في الكلام على مكاتبة صاحب بر العدوة.
ويقال إن سليمان هذا لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس، وقيل: بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب ويكون على هذا المقتضى نسبه قد التحم بنسب المصامدة، واتصل بهم وصار في عدادهم كما تقدم في نسب أبي حفص.
وكان أهل بيته أهل دين وعبادة، وشب محمد هذا فيهم قارئاً محباً للعلم، وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائة الخامسة، ومر بالأندلس، ودخل قرطبة وهي إذ ذاك دار علم.
ثم لحق بالأسكندرية وحج، ودخل العراق، ولقي أكابر العلماء به يومئذ وفحول النظار. ولقي أئمة الأشعرية من أهل السنة وأخذ بقولهم في تأويل المتشابه.
ويقال إنه لقي أبا حامد الغزالي رحمه الله واستشاره فيما يريده من قيام الدولة بالمغرب.
ورجع إلى المغرب وقد حصل على جانب كبير من العلم، وطعن على أهله في الوقوف مع الظاهر وحملهم على القول بالتأويل والأخذ بمذهب الأشعرية في جميع العقائد، وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة وغيرها.
وكان مع ذلك يقول بعصمة الأمام على مذهب الأمأمية من الشيعة.
وانتهى إلى بجاية فأقام بها يدرس العلم ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وهناك لقيه عبد المؤمن أحد أصحابه وارتحل معه إلى المغرب وصار إلى بلاد هرغة من البربر، فاجتمع إليه الطلبة ونشر العلم، وأظهر مذهب الأشعرية.
وكان الكهان والمنجمون يتحدثون بظهور ملك بالمغرب من البربر، وشاع في الناس أنه ذلك الملك، واختار من أصحابه عشرةً فجعلهم خاصته: وهم عبد المؤمن بن علي، وأبو حفص عمر بن علي، ومحمد بن سليمان، وعمر بن تافركين، وعبد الله بن ملويات وغيرهم.
ودعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد وقتال المجسمين، فبايعوه على ذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ولما تكاملت له البيعة لقبوه بالنمهدي، وكان قبل ذلك يلقب بالأمام، وكان عبد المؤمن أخص أصحابه به، وكان يلقبه بالخليفة، وأبو حفص بعده في الخصوصية، وكان يلقبه بالشيخ، وكان يسمي أتباعه الموحدين تعريضاً بمن يجنح عن التأويل ويقف مع الظاهر فيوقعه في التجسيم وغيره، ولم تحفظ عليه بدعة إلا ما وافق في الأمأمية من القول بعصمة الأمام.
وقد مر ذكر مدة ولايته ثم استخلاف عبد المؤمن بعده في الكلام على مكاتبة صاحب بر العدوة.
وقد تقدم ابتداء انتقال مملكة إفريقية إلى أبي حفص وانسحابها فيهم إلى زماننا على الترتيب.
الجملة العاشرة في ترتيب المملكة بها من زي الجند وأرباب الوظائف من أرباب السيوف والأقلام ومقادير الأرزاق الجارية عليهم وزي السلطان وترتيب حاله في الملك:
أما الجند، فقد نقل عن مسالك الأبصار عن أبي عبد الله بن القويع: أن الذي قرره لهم مهديهم ابن تومرت، ثم عبد المؤمن وأبناؤه أنه ليس لهم أمراء ولا أتباع يطلب بعدتهم كعدة الأمراء بمصر، وإنما لهم أشياخٌ من أعيانهم لا عدة لهم ولا جند، بل المرء منهم بنفسه فقط، ولكل طائفة منهم رئيس يتولى النظر في أحوالهم يسمونه المزوار.
أما الجند فمن الموحدين والأندلسيين وقبائل بها من المضافة إليهم ومن قبائل العرب ومن هاجر إليهم من العرب القدماء، الذين هاجروا في مدة بني عبد المؤمن، والمماليك الترك المبتاعة من الديار المصرية، ومن الفرنج وغيرهم.
وحاصل ما ذكره في المسالك أن الجند عندهم على سبع طبقات.
الطبقة الأولى- الأشياخ الكبار من الموحدين الذين هم بقايا أتباع المهدي ابن تومرت.
قال في مسالك الأبصار: وهم بمثابة أمراء الألوف بمصر، وبمثابة النوينات أمراء التوامين بمملكة إيران.
الطبقة الثانية- الأشياخ الصغار من الموحدين أيضاً: وهم من تقدم منهم في الرتبة.
الطبقة الثالثة- الوقافون. قال في مسالك الأبصار: سألت ابن القويع عن معنى الوقافين ما هو؟ فقال: هم قومٌ لهم خاصية بالسلطان يسكنون معه في القصبة: وهي القلعة، بمنزلة الأمراء الخاصكية.
قال: وهم طبقتان: وقافون كبار، ووقافون صغار، وكلهم يقفون بين يديه في أوقات جلوسه إذا جلس للناس.
الطبقة الرابعة- عامة الجند.
الطبقة الخامسة- الجند من قبائل العرب.
الطبقة السادسة- الصبيان: وهم جماعةٌ من الشباب بمثابة المماليك الكتانية بالديار المصرية، يكونون في خدمة السلطان.
الطبقة السابعة- الجند من الأفرنج، ويعبر عنهم بالعلوج؛ وهم لخاصة السلطان لا يطمئن إلا إليهم.
وأما عدة العسكر. ففي مسالك الأبصار عن ابن القويع أنها لا تبلغ عشرة الأف وإنما العدد الجم في العرب أهل البادية ولهم قوة شوكةٍ.
وأما أرباب الوظائف فعلى ثلاثة أضرب.
الضرب الأول: أرباب السيوف:
وهم ثمانية:
الأول- الوزراء: وهم ثلاثة وزراء: وزير الجند وهو المردود إليه الحديث في أمر الجند.
قال في مسالك الأبصار: وهو بمثابة الحاجب بالديار المصرية، ووزير المال: وهو المتحدث في أمر المال، ويعبر عنه بصاحب الأشغال، ووزير الفضل، وهو كاتب السر.
الثاني- شيخ الموحدين. قال ابن القويع: وشيخ الموحدين كأنه نائب السلطان، ويسمى الشيخ المعظم وهو الذي يتولى عرض الموحدين وأمورهم.
الثالث- أهل المشورة: وهم ثلاثةٌ من أشياخ الموحدين يجلسون بمجلسه للرأي والمشورة.
الرابع- صاحب الرقاعات. قال ابن سعيد: وهو الذي يتولى إبلاغ الظلامات إلى السلطان وإيصال قصصهم وعرضها عليه ثم يخرج بجوابها عنه.
قال في مسالك الأبصار: وهذا بمثابة الدوادار يعين بالديار المصرية.
الخامس- صاحب العلامات: وهوالمتولي أمور الأعلام، وهو بمثابة أمير علم بالديار المصرية.
وفي معناه آخر إليه أمر دق الطبول، يأمر بدق الطبول عند ركوب السلطان في المواكب.
السادس- الحافظ: وهو صاحب الشرطة، وعنه يعبر المصريون بوالي المدينة.
السابع- محركو الساقة: وهم قومٌ يكون بأيديهم العصي، يرتبون الناس في المواكب، بمنزلة النقباء بالديار المصرية.
الثامن- صاحب الطعام: وهو بمنزلة إستاددار الصحبة.
الضرب الثاني: أرباب الأقلام:
وقد ذكر منهم ثلاثة: الأول- قاضي الجماعة: وهو مثل قاضي القضاة بالديار المصرية.
الثاني- المحتسب: وهو معروف.
الثالث- صاحب كتب المظالم. قال في مسالك الأبصار وهو الموقع على القصص وكأن بمثابة موقع الدست بمصر والشام.
الجملة الحادية عشرة في ذكر الأرزاق المطلقة من جهة السلطان:
ويختلف الحال باختلاف أحوال أربابها.
فأما أشياخ الموحدين الكبار، فقد نقل في مسالك الأبصار عن القاضي أبي القاسم بن بنون أن لهم أرضاً يزرعونها أو يحكرونها ويكون لهم عشر ما طلع منها.
وهذه الأرض بمثابة الأقطاع بمصر، ولكل واحدٍ منهم في كل سنة حرث عشرة أزواجٍ بقراً، كل زوج بشعبتين، كل شعبة رأسان من البقر فيكون لكل واحدٍ عشرون شعبة. قال في مسالك الأبصار: وهذه الشعبة هي المسماة في بلاد دمشق بالفدان. ولهم مع ذلك راتب يفرق عليهم في طول السنة، يسمونه البركات، بمثابة الجوامك بمصر؛ يفرق أربع مرات في السنة: في عيد الفطر تفرقةٌ، وفي عيد الأضحى تفرقةٌ، وفي ربيع الأول تفرقةٌ، وفي رجبٍ تفرقةٌ، يصيب كل واحدٍ منهم من ذلك أربعون ديناراً مسماةً، تكون بثلثمائة درهم عتيقة، والسلطان يأخذ معهم بسهم كواحد منهم على السواء، فيكون جملة ما لكل واحد منهم في كل سنةٍ مائةً وعشرين ديناراً مسماة، عنها الألفٌ ومائتا درهم مغربية، عنها من نقد مصر والشام ستمائة وخمسون درهماً، وما يتحصل من مغل عشرين فداناً بقدر مثلها.
قال في مسالك الأبصار: فيكون تقدير ما لأحد المشايخ الكبار الذين بمثابة أمراء الألوف بمصر والشام في كل سنة ألفٌ وثلثمائة وعشرة دراهم نقرةً بمعاملة مصر في كل سنة.
وأما الأشياخ الصغار، فلكل واحد منهم حرث خمسة أزواج من البقر، على النصف من الأشياخ الكبار؛ والبركات في كل سنة على ما تقدم في الكبار. قال ابن بنون: ولعامة الأشياخ الكبار والصغار والوقافين والجند شيءٌ آخر يفرقه السلطان عليهم، يسمى المواساة: وهي غلة تفرق عليهم عند تحصيل الغلات في المخازن، وشيء ثالثٌ يقال له الأحسان وهو مبلغٌ يفرق عليهم. قال وكلاهما من السنة إلى السنة ليس لها قدر مضبوط ولا قدر مخصوص، بل على قدر ما يراه السلطان وبحسب أقدار الناس. ومقادير العطايا بينهم متفاوتةٌ. قال: وكذلك القبائل ومزاويرهم على هذا النحو. قال ابن القويع: والجند الغرباء يتميزون في الأعطيات على الموحدين. قال: وللعرب أهل البادية إقطاعاتٌ كثيرةٌ، ومنهم من يخرج مع السلطان إذا استدعاهم السلطان للخروج معه.
الجملة الثانية عشرة في لبس سلطان مملكة تونس ولبس أشياخه وسائر جنده وعامة أهل بلده:
أما لبسه فقد ذكر في مسالك الأبصار عن سلطان زمانه بأفريقية: أن له عمامةً ليست بمفرطة في الكبر، بحنكٍ وعذبة صغيرة. قال ابن سعبيد: له عمامةٌ كبيرةٌ من صوفٍ وكتان فيها طرازٌ من حرير. ولا يتعمم أحدٌ من أهل دولته قدرها في الكبر. وذكر أن عذبة عمامته تكون خلف أذنه اليسرى، وأنها مخصوصة به وبأقاربه؛ وله جباب تليها، ولا يلبس هو ولا عامة جنده وأشياخه خفاً إلا في السفر. وغالب لبسه ولبس أكابر مشايخه من قماشٍ عندهم يسمى السفساري، يعمل عندهم من حريرٍ وقطن أو حريرٍ وصوفٍ رفيعٍ جداً، وقماشٍ يعرف بالتلمساني يعمل بتلمسان: إما صوفٌ خالصٌ أو حرير خالص: مختم وغير مختم. قال ابن بنون: والسلطان يمتاز بلبس الخز، ولونه لون الخضرة والسواد. قال: وهذا اللون هز المسمى بالجوزي، وبالغيار، وبالنفطي. قال ابن سعيد: وهو ما يخرج من البحر بصفاقس.
قال في مسالك الأبصار: وهو المسمى بوبر السمك بمصر والشام يعني المعبر عنه بصوف السمك المقدم ذكره عند صفاقس من بلاد أفريقية. قال ابن سعيد: وهي أفخر ثياب السلطان بتونس ونقل في مسالك الأبصار عن ابن سعيد: أنه يلبس الثياب الصوف الرفيعة، ذوات الألوان البديعة، وأكثر ما يلبس المختم الممتزج من الحرير والصوف، بكمين طويلين من غير كثرة طول، ضيقين من غير أن يكونا مزندين. وثيابه دون شد نطاقٍ إلا أن يكون في الحرب فإنه يشد المنطقة، ويلبس الأقبية، وله طيلسان صوفٍ في نهاية اللطافة، كان يرتدي به ولا يضعه على رأسه.
وأما لبس الأشياخ والدواوين والوقافين والجند والقضاة والوزراء والكتاب وعامة الناس فعلى زي واحدٍ لا تكاد تتفاوت العمائم والجباب ولا يمتاز الأشياخ والوقافون والجند إلا بشيء واحد لا يكاد يظهر ولا يبين وهو صغر العمائم وضيق القماش، ولباس عامة أهل أفريقية من الجوخ ومن الثياب الصوف ومن الأقبية ومن الثياب القطن، فمن لبس غير هذا مما يجلب من طرائف الإسكندرية والعراق كان نادراً شاذاً.
الجملة الثالثة عشرة في شعار الملك بما يتعلق بهذا السلطان:
نقل في مسالك الأبصار عن ابن القويع أن له علماً أبيض يسمى العلم المنصور، يحمل معه في المواكب، وذكر أن الأعلام التي تحمل معه في المواكب سبعة أعلام: الأوسط أبيض وإلى جانبه أحمر وأصفر وأخضر. قال: ولا أتحقق كيف ترتيبها وأن ذلك غير أعلام القبائل التي تسير معه فلكل قبيلةٍ علمٌ تمتاز به بما عليه من الكتابة، والكتابة مثل لا إله إلا الله، أو الملك لله، وما أشبه ذلك، وأن له الطبول والبوقات والنفير.
الجملة الرابعة عشرة في جلوس سلطان هذه المملكة في كل يوم:
قال ابن سعيد: عادة هذا السلطان في مدينة مملكته تونس: أنه يخرج باكر كل يوم إلى موضعٍ يعرف بالمدرسة، ويبعث خادمأً صغيراً يستدعي وزير الجند من موضعه المعين له، فيدخل عليه رافعاً صوته بسلام عليكم عن بعد من غير أن يوميء برأسه، ولا يقوم له السلطان، فيجلس بين يدي السلطان، ويسأله السلطان عما يتعلق بأمور الجند والحروب، ثم يأمره باستدعاء من يريده من أشياخ الجند أو العرب أو من له تعلق بوزير الجند؛ ثم يأمر باستدعاء وزير المال وهو المعروف بصاحب الأشغال فيأتي معه ويسلمان جميعاً من بعد على السلطان، وإن كان قد تقدم سلامٌ وزير الجند، ثم يتقدم وزير المال إلى ما بين يدي السلطان ويتأخر وزير الجند إلى مكانٍ لا يسمع فيه حديثهما، ثم يخرج وزير المال ويستدعي من يتعلق به، ثم يحضر صاحب الطعام بطعام الجند ويعرضه على وزيرهم لئلا يكون فيه تقصيرٌ، ثم يقوم السلطان من المدرسة إلى موضعٍ مخصوصٍ ويستدعي وزير الفضل: وهو كاتب السر، ويسأله عن الكتب الواردة من البلاد، وعما تحتاج خزانة الكتب إليه، وعما تجدد في الحضرة وفي البلاد مما يتعلق بأرباب العلم وسائر فنون الفضل والقضاة، ويأمر باستدعاء من يخصه من الكتاب ويملي عليه وزير الفضل ما أمر بكتابته، ويعلم عليه وزير الفضل بخطة؛ ثم يستدعي السلطان من شاء من العلماء والفضلاء ويتحاضرون محاضرةً خفيفة.
وإن كان وزير الفضل قد رفع قصيدةً لشاعر وافدٍ أو مرتبٍ في معنى استجد، أمره السلطان بقراءتها عليه، أو يأمر بحضور الشاعر لينشدها قائماً أو قاعداً بحسب ما تقتضيه رتبته، ويتكلم السلطان مع وزير الفضل ومن حضر من الفضلاء في ذلك ويكتب على كل قصيدةٍ بما يراه.
الجملة الخامسة عشرة في جلوسه للمظالم:
قال الشيخ شرف الدين عيسى الزواوي: إذا جلس السلطان جلس حوله ثلاثةٌ من كبار أشياخ الموحدين للرأي والمشورة، ويجلس معهم وزير الجند إن كان كبيراً، وإن لم يكن كبيراً وقف بإزاء أولئك الثلاثة، ويجلس دونهم عشرة من أكابر أشياخه، وربما كان الثلاثة المختصون بالرأي من جملة العشرة المذكورين، ويقف خمسون وقافاً وراء وزير الجند. فإذا أمر السلطان بأمرٍ بلغه وزير الجند لآخر واقفٍ وراءه، وبلغه الآخر لآخر، حتيى ينتهي إلى من هو خارج الباب بنقل ناسٍ عن ناس، ويقف دون الخمسين المذكورين جماعة تسمى بالوقافين بأيديهم السيوف حوله، وهم دون الخمسين المذكورين في الرتبة.
وقد ذكر ابن سعيد: أن يوم السبت مخصوص عنده بأن يقعد في قبة كبيرة في القصبة: وهي القلعة، ويحضر عنده أعيان دولته وأقاربه والأشياخ، ويجلس أقاربه عن جانبه الأيمن، والأشياخ عن جانبه الأيسر؛ ويجلس بين يديه وزير الجند، ووزير المال، وصاحب الشرطة، والمحتسب، وصاحب كتب المظالم: وهو الموقع على القصص.
ويقرأ الكاتب المعين ما وقع له على قصص المظالم، ويرد كل ما يتعلق بوظيفةٍ إلى رب تلك الوظيفة إلى رب تلك الوظيفة وينفذ الباقي.
الجملة السادسة عشرة في خروجه لصلاة الجمعة:
قال ابن سعيد: من عادة السلطان بأفريقية أنه لا يجتمع يوم الجمعة بأحد، بل يخرج عندما ينادي المنادي بالصلاة، ويشق رحبة قصره ما بين خواص من المماليك الأتراك، فعندما يعاينونه ينادون سلامٌ عليكم، نداءً عالياً على صوت واحد يسمعه من يكون بالمسجد الجامع، ثم يتقدمه وزير الجند بين يديه في ساباط يخرج هناك للجامع، عليه بابٌ مذهب سلطاني، ويسبق الوزير فيفتح الباب، ويخرج منه السلطان وحده، ويخرج له جماعة الوقافين من أعيان الدولة فلا يقوم له في الجامع غيرهم؛ وليس له مقصورةٌ مخصوصةٌ للصلاة. فإذا انفصل عن الصلاة قعد في قبة كبيرة له في صدر الرحبة وحضر عنده أقاربه، ثم يدخل قصره.
الجملة السابعة عشرة في ركوبه لصلاة العيدين أو للسفر:
قال القاضي شرف الدين عيسى الزواوي: وعادته في ذلك أن يركب السلطان، وعن يمينه فارسٌ وعن يساره فارسٌ من أكابر أشياخه من العشرة المقدم ذكرهم، ويمشي الى جانبه رجلان مقلدان سيفين رجالة الى جانبه: أحدهما ممسك بركابه الأيمن، والثاني ممسكٌ بركابه الأيسر، ويليهما جماعة رجالة من أكابر دولته: مثل الثلاثة أصحاب الرأي، والعشرة الذين يلونهم، ومن يجري مجراهم من أعيان الجند، وتسمى هذه الجماعة ايربان، يمشون حوله بالسيوف وبأيديهم عكاكيز.
قال: وربما مشى في هؤلاء قاضي الجماعة: وهو قاضي القضاة.
وأما هؤلاء الجماعة المشائين نفرٌ كثير من الموحدين أقارب السلطان بسيوفٍ ومزاريق، ويسمون بالمشائين.
وقدامهم جماعةٌ يقال لها جفاوة: وهم عبيد سودٌ بأيديهم حراب في رؤوسها راياتٌ من حرير، وهم لا يلبسون جب أبا بيضاً مقلدون بالسيوف.
وأما هؤلاء قومٌ يعبر عنهم بعبيد المخزن، وهم عوام البلد وأهل الأسواق، وبأيديهم الدرق والسيوف، ومعهم العلم الأبيض المسمى بالعلم المنصور المقدم ذكره في شعار السلطنة.
وعادتهم أن ينادى فيهم ليلة العيد أو ركوب السلطان لسفر، فيخرج أهل كل صناعة بظاهر البلد، ويكون خلف السلطان صاحب العلامات، وهو أمير علم راكب، ووراءه أعلام القبائل، ووراء الأعلام الطبول والبوقات، وخلفهم محركو الساقة الذين هم بمثابة النقباء وبأيديهم العصي يرتبون العساكر، وخلف هؤلاء العسكر.
والفارس الذي عن يمين السلطان إليه أمر دق الطبول يقول: دق فلان باسم كبيرهم، ويستمر من حول السلطان من المشاة يمشون ثم يركبون، ويطيف بالسلطان جماعةٌ يقرأون حزباً من القرآن الكريم.
ثم يقف السلطان ويدعو ويؤمن وزير الجند على دعائه، ويؤمن الناس على تأمينه، ويجد الناس والسلطان السير.
فإن كانوا في فضاء كان مشيهم على هذا الترتيب، وإن ضاق بهم الطريق مشوا كيف جاء على غير ترتيب إلا أن الجند لا يتقدمون على السلطان، فإذا قربوا من المنزلة وقف السلطان ودعا وأمن على دعائه كما تقدم، وإن كان في صلاة العيد ذهب في طريق وعاد في أخرى.
الجملة الثامنة عشرة في خروج السلطان للتنزه:
قد تقدم في الكلام على مدينة تونس أنها على طرف بحيرةٍ خارجة من البحر الرومي تحدق بها البساتين من كل جانب، وفي تلك البحيرة جزيرة يقال لها سكلة لا ساكن بها ربما ركب السلطان في السفن وصار اليها في زمن الربيع، وتضرب بها أخبية ويقيم بها للتنزه أياماً ثم يعود.
على أنه لا ماء فيها ولا مرعى، ولكن لما تشرف عليه من البساتين المستديرة بتلك البحيرة وما قبلها من الجواسق المشرفة ومنظر البحر.
وقد ذكر ابن سعيد: أنه ربما خرج إلى بستانه، فيخرج في نحو مائتي فارس من الشباب المعروفين بالصبيان الذين هم بمثابة المماليك الكتانية بالديار المصرية، يوصلونه الى البستان ويرجعون، ويبقى وزراؤه الثلاثة نو أبا له.
وكل ما يتجدد عند كل واحد منهم من الأمر طالعه به وجاوبهم بما يراه.
قال في مسالك الأبصار: وركوبه إلى البستان في زقاق من قصبته إلى البستان محجوب بالحيطان لا يراه فيه أحد.
الجملة التاسعة عشرة في مكاتبات السلطان:
قال في مسالك الأبصار: قال ابن سعيد: قال العلامة أبو عبد الله بن القويع: إن هذا السلطان لا يعلم على شيء يكتب عنه، وإنما يعلم عنه في الأمور الكبار صاحب العلامة الكبرى، وهو كاتب السر في الغالب؛ والعلامة الحمد لله أو الشكر لله بعد البسملة.
قال: ومن خاصية كتب هذا السلطان أن تكتب في ورق أصفر.
ومن عادته وعادة سائر المغاربة أن لا يطيلوا في الكتب ولا يباعدوا بين السطور كما يفعل في مصر وما ضاهاها.
أما في الأمور الصغار فإنما تكون الكتابة فيها عن وزير الجند، ويكتب عليها صاحب العلامة الصغرى اسم وزير الجند، وتكون هذه الكتب في غير الورق الأصفر.
الجملة العشرون في البريد المقرر في هذه المملكة:
قد ذكر في مسالك الأبصار: أنه إذا كتب كتابٌ إلى نواحي هذه المملكة ليوصل إلى بعض نوابها، جهز مع من يقع الأختيار عليه من النقباء أو الوصفان: وهم عبيد السلطان، ويركب على بغلٍ إما ملك له أو مستعارٌ ويسافر عليه الى تلك الجهة.
فإن أعيا في مكان تركه عند الوالي بذلك المكان وأخذ منه بغلاً عوضه، إما من جهة الوالي أو يسخره له من الرعايا، إلى أن ينتهي إلى جهة قصده ثم يعود كذلك.
الجملة الحادية والعشرون في الخلع والتشاريف في هذه المملكة:
قال القاضي أبو القاسم بن بنون: ليس من عادة سلطان إفريقية إلباس من ولي ولايةً خلعةً كما في مصر، وإنما هي كسوة: وهو قماش غير منفصل يتصرف فيه كيف شاء.